اليوم الذكرى السنوية الثانية لوفاة والدي، معلمي وملهمي وصانع ما أنا عليه اليوم.

أعلم أن والدي كان من أعظم الآباء، وهو من أعظم النعم التي أنعمها الله عليّ. دائمًا ما أتذكر رحلة حياتي معه، كل كلمة قالها لنا وكل جلسة جلسناها معه. أعود لأستمع إلى تسجيلات الصوت التي كنت أسجلها له سرًا، وكأنني أستمع إلى أجمل حلقة بودكاست مليئة بنصائح نقية وصادقة، مشبعة بمشاعر الحرص والحب.

أبي هو الذي أرى العالم من خلال ابتسامته. أتمنى لو أن الزمن يعود عامين فقط، لاستغل كل لحظة كنت فيها على عجلة، وكل فرصة لم أغتنم الوقت الكافي معه.

رغم رحيله عن هذه الدنيا، فإنه لم يغادر ذهني يومًا. والدي هو البطل الخارق الذي صنع المعجزات، وأنا اليوم أكتب هذا لي ولأبنائي ولكم عن أبي العظيم الذي رباني وقدم لي ما لا يخطر على بال إنسان.

رجل من ريف دمشق

ولد أبي في ريف دمشق، حيث عاش حياته وذكرياته. درس اللغة العربية وكان من عشاقها، ثم ذهب لاحقًا لدراسة علوم الشريعة في معهد الفتح الإسلامي في دمشق. كنا نعيش في منزل دافئ جدًا، ولا أتذكر منه الآن سوى المدفأة القديمة في الشتاء، وكيف كان يجمعني وأخوتي حول المدفأة ليقرأ علينا أحداثًا من صحيح البخاري. كان أسلوبه مميزًا، يقرأ جملة من الحديث ثم يعيد تصويره لنا وكأنه مشهد سينمائي. أكاد أجزم أن كل تلك الأحداث التي رواها لنا في تلك الفترة لا تزال عالقة في ذهني حتى اليوم.

نعمة GPT في تخيل المشهد

المكتبة

كان والدي قارئًا نهمًا، ولا زلت أتذكر مكتبته الضخمة التي كانت مليئة بالمجلدات والكتب. أذكر تحديدًا مجموعة كتب صحيح البخاري التي كانت مرتبة لتشكل قوسًا منحنيًا، وكنت أستمتع بترتيبها دائمًا. أتذكر أيضًا مساء يوم شتوي، عندما كان والدي يدرسني وأخوتي اللغة العربية. “أكل زيد التفاحة، وضرب زيد الولد” — كانت الجمل تتكرر، وكان يشرح الفاعل والمفعول به. لم أكن محبًا للإعراب مثل والدي، بل كنت أكره دراسة العربية، وأحاول الهروب من الدروس حتى أكون أنا “المضروب” وليس “زيد”، وليكون هو الفاعل وأنا المفعول به.

رفيق العمل

كنت أحب أبي وأستمتع بصحبته، ودائمًا ما كنت أترجاه كي أذهب معه إلى العمل. كان والدي يملك مكتبة صغيرة في دمشق في بداية الألفينات، وكنت أنتظر أيام العطل المدرسية بفارغ الصبر كي أذهب معه. كنت أشاهد طلاب الجامعة وأرى أبي يعمل على الكمبيوتر، وأراقبه وهو يصمم حلقات البحث باستخدام “باوربوينت”. واذكر أيضًا الألعاب البسيطة مثل “مجموعة برامج الأسرة” التي كان يفتحها لي، وكيف كنا نشاهد “مسلسل دنيا” معًا.

ذات مرة، رافقته إلى مكان عمله حين كان يعمل في تركيب الزجاج، وتحديدًا لمدرسة بالقرب من الجامع الأموي. كانت المدرسة تشبه بيتًا دمشقيًا قديمًا، بباحة تتوسطها بحرة جميلة. سألت أبي يومها لماذا لا توجد بحرة في كل المدارس، فأخبرني بقصة المكان وتاريخه، وكيف تحول إلى مدرسة. كما اكتشفت في ذلك اليوم أن والدي لا يحب الباذنجان، عندما طلب عدم وضعه في سندويشة الفلافل، ومنذ ذلك اليوم أصبحت أقلده في ذلك دون أن أدرك السبب، رغم أنه الآن من أحب الأطعمة لي.

بعد البحث عن المدرسة، وجدت هذا الفيديو عنها. تُعرف المدرسة باسم “المدرسة الظاهرية”.

أبي في العمل

عمل والدي في حياته في العديد من المهن، ولم يكن لديه حرفة واحدة فقط. عمل في الزجاج، وسائق تكسي، وموزع، وخياط، وفلاح، ومحاسب، وسائق شاحنة. كان والدي ينتقل من مهنة إلى أخرى، وكنت محظوظًا لأنني كنت دائمًا أصر على مرافقته في العطل، وغالبًا ما كان يأخذني معه. كانت أحاديث الطريق في سيارة التوزيع تقصر المسافات وتجعلني أشعر بالراحة.

لوالدي فضل كبير عليّ، فهو من صنع معتقداتي وما أؤمن به اليوم. إخلاصه في العمل ومراقبته لنفسه كانا يذهلانني. كان يحاسب نفسه على أخطائه، ويخاف أن يظلم أي إنسان. أذكر يومًا حين عاد إلى المنزل بعد عمله كسائق تكسي، وأخبرني أنه شعر بأننا لم نركض نحوه لنحضنه كما نفعل عادةً. كان يشعر أن الله يرسل له إشارة لأنه أخذ أجرة الطريق من رجل بدا فقيرًا، وكان المبلغ 25 ليرة سورية فقط (حوالي نصف دولار في ذلك الوقت). موقف كهذا علق في ذهني إلى اليوم، وأصبحت دائمًا أفكر كثيرًا قبل أن آخذ مبلغًا من أي شخص، وأنتبه للإشارات التي يرسلها الله لي عبر من أحب.

أتذكر أيضًا يومًا حين قرر بيع حصته في مطعم كنا نعيش من دخله الجيد. سألته عن السبب، فقال لي إنه رأى أحد العمال يصنع المايونيز بعصا متسخة، وهذا كان في نظره إخلالًا بالأمانة بينه وبين الناس الذين يأكلون من المطعم. لم يستطع تحمل هذا المشهد، وقرر أن ينسحب لأنه لا يستطيع تغيير الموقف. وقال لي حينها: “من ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا”.

ختاماً – بداية السلسلة

هذه بداية لسلسلة من الدروس التي تعلمتها من والدي، دروس سأشاركها هنا معكم لتبقى حيّة بيننا، ولعلها تُلهم من يقرأها، كما ألهمني والدي يومًا. فقد كان أبي رجلًا عظيمًا، وما أنا عليه اليوم ليس إلا امتدادًا لما زرعه والدي فيّ من قيم وعلم.

الى أبي

كنت دائمًا من رحمات الله، واليوم أنت إليها. ألطف من نصح، وأبلغ من تعامل، وأفضل من تحدث. زاهد في الدنيا، متتبع للسنن، قائم لليل، صائم للنهار. لم أرك غاضبًا يومًا، وإذا تكلمت أجزت. كنت هادئًا، منخفض الصوت، متزنًا، ورزينًا.

سامحني على تقصيري، وسامحني إن لم أكن كما يجب.
اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، فقد كان لنا روضة في دنياه.
رحمة الله عليك، يا سيدي وتاج رأسي، يا أبي.

Posted by:حسام عبد

مؤسس تقني

2 thoughts on “ دروس من أبي ”

  1. أدركت -بمجرد رؤية وجه والدكِ السمح (رحمه الله)- كم كان العالم محظوظًا بوجوده، وحجم الفقد الذي مُنينا به برحيله. لا أتقن العزاء؛ وربما يكون عزائنا الوحيد أنه في مكانٍ أفضل الآن.
    بارك الله فيك حسام. وجعل الجنة مثوى لوالدك البرّ التقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.