مضى عام وبضعة أشهر على انتقالي من إسطنبول إلى الرياض. رحلة ودّعت فيها ذكريات عشرة أعوام، تحمل بين طيّاتها الكثير من التفاصيل والتحديات التي صنعت ما أنا عليه اليوم.
في كل مرة أترك بها إسطنبول، أشعر أن هناك شيئاً داخلي يريد أن يعيدني إليها.
لا أعلم، هل أنا متعلّق بها لأنها ساحرة؟ أم لأنني شببتُ فيها؟ أم لأنها أعطتني فرصة أن أعيش كل شيء لأول مرة؟
أول عمل، أول شهادة، أول حب، وأول بيت. بلد منحتني جنسيتها، وبها أصبحت أبًا ليوسف. فيها تعلّمت، وبها أسست عملي، وفيها ودّعت والدي وذكرياتي معه.
أم لان أهلي وأصدقائي بها؟ وإن رحلوا معي، هل كانت ستنتقل المشاعر معهم؟
الرياض وفّرت لي حلولًا لكثير من التحديات التي كنت أواجهها في إسطنبول؛ من استقرار سياسي واقتصادي، إلى جمال الناس ونفوسهم. لكنني، رغم ذلك، حاولت كثيرًا أن أندمج معها، ولم أجد للمدينة روحًا، كالتي وجدتها في إسطنبول… أو كالتي وجدها في دمشق.
فأسأل نفسي دائمًا: هل للمدن أرواح؟ أم نحن من يمنحها الروح؟ هل نحن من يتعلق بها، أم هي؟
رغم محدودية مهارتي الاجتماعية في تكوين العلاقات، والتي أراها كعمل بدوام كامل، حاولت مرارًا الاندماج مع المجتمع من حولي. لكن محاولاتي ما زالت تفشل في كل مرة.
لا أعلم، هل كلما تقدم بنا العمر أصبح من الصعب أن يدخل الأشخاص إلى دائرتنا القريبة؟ أم أن الأشخاص الذين يمكنك الاتصال بهم في أي وقت، لأي سبب، دون تفكير، هم من عشنا معهم التجارب لأول مرة؟
كل يوم أفكر بالعودة إلى إسطنبول، هاربًا من بداية جديدة لا أشعر أنها تشبهني. لكن عقلي يقول عكس ما يريده قلبي.
وما أصعب صراع العقل والقلب، خصوصًا حين تكون داخليًا متفقًا مع عقلك، لكنك تميل إلى راحة قلبك…
أهون على نفسي، فأقول إنني استخرت ربي قبل اتخاذ هذه الخطوة، فسهّلها.
ولدي إيمان أنها الخير.
وهذا ما يعطيني القوة لأتابع هذه الرحلة… إلى حين الاستسلام.
خرجتُ منها، نعم…
لكن يبدو أنها لم تخرج مني بعد، ولن تفعل.